أنتهى اليوم فى الأذاعه ببطئ شديد ,
فألم ظهرى قد تمكن منى بسبب الجلوس لفترات طويله , أحتاج إلى أن أرتاح و كل هدفى
الأن الذهاب إلى البيت و لكن تم إبلاغى إن الممله تريد أن أذهب إليها فى مكتبها
الأن , نعم هى (ايمان) , لم أكن فى حاله تسمح للأستماع إلى الهراء الذى تنطق به !
الساعه الأن الحاديه عشر مساءا , تركت الأذاعه و توجهت إلى سيارتى و لم
أقابلها , الجو هادئ , لا رياح ولا هواء فقط صمت و سكون و رائحه خشب محروق تملا
الجو , إنها الرائحه المفضله لدى , أشعلت سيجاره ملفوفه و أحرقتها داخل صدرى
أحتفالا بحاله الجو التى لا تتكرر كثيرا , ركبت السياره و أنطلقت إلى المنزل ,
فتحت باب الشقه و ألقيت المفاتيح و عصام و نرمين و أشرف على الطاوله , أخذت طريقى
إلى غرفتى , بدلت ملابسى بعد حمام سريع و بعض الأسئله الوجوديه , تناولت دواء ألم
الظهر فى محاوله لأخراسه لكى يتركنى قليلا أنام ثم يعود بعد ذلك !
عندما تنفصل عن الحياه ...
عن العالم ...
عن جسدك ...
عن عملك و مديرتك ...
عن رئيس البلاد و حزبه ...
عندما تنفصل عن كل هذا و تسلم نفسك بأرادتك للنوم , كمريض يأخذه البنج فى
رحله إلى اللامكان و سرعان ما يعود الى أرض الواقع , هكذا أنا و النوم !
عند
دخولك الغرفه , تجد أمامك سرير و بجانبه دولاب و مكتب و نافذه مغلقه فوقها ستاره
لونها أبيض , أحتل التراب خيوطها و فوق المكتب هاتف لا يمل الرن كأن من يتصل يعلم أننى
هنا , على أحد الحوائط يوجد مراه أيضا التراب أحتل مساحه كبيره منها , فوقها ساعه
حائط معلقه توفيت عقاربها عند الواحده و النصف , لا أعلم إن كانت صباحا أم مساءا ,
الرن مستمر و الالحاح مستمر , تبا لذلك الهاتف اللعين !
بجانب
السرير يوجد طاوله صغيره و فوقها كتب تنميه بشريه و روايات كثيره لم يتم الانتهاء
من قرأتها و زجاجه مياه , الماء الذى بداخلها أصبح له لون الصفره , مازال يطلب ولا
يمل ولا يكف عن السؤال , يوجد برواز معلق به صوره أحد الأشخاص , أعتقد ربما شاهدته
فى مكان ما , لكن لا أتذكر أين تحديدا , هناك فى أحد أدراج المكتب مفتاح سياره
موديل سنه 1998 , نعم أنها نفس الماركه التى أفضلها , لا أعلم كيف أغلق هذا الهاتف
المزعج ؟!
أشعر
بالمرض , قلبى يألمنى منذ فتره , كأن رصاصه أخترقته و أستقرت بداخله , أريد أن أرتاح
, أستلقيت على السرير فى محاوله لتهدئه سرعه ضربات قلبى , اللعين يمكن أن ينقلب
على سرعه هذه الضربات و أرحل أنا عن العالم , كفى رن , كفى زن , كفى تلك النغمه
الحمقاء !
كانت واقفه عند النافذه , ترتدى قميصا أبيض كشف عن أرجلها و جزء من صدرها ,
تقترب فى أبتسامه كأنها وجدت ما تبحث عنه , شعرها يرتطم كأمواج البحر على كتفيها ,
أقتربت حتى اصبحت بجانبى , شخص ما يلمس يدى , نعم أنا أشعر بأًصابعه تتشابك
بأصابعى , نعم أنا متذكر تلك اليد جيدا , ذلك الكف الخشن نوعا ما و الخطوط البارزه
به , خط الحياه و القلب و العمر , خطوط ضعت بداخلها !
الهدوء يسود المكان , حطام فى كل اتجاه , بقايا زجاج متناثره على جانبى الطريق و عمود اناره وحيد ينشر اشعته فوقى .. هكذا كانت حالتى مستلقى على جانب الطريق و اشعر بضيق شديد من وجودى فى هذا الجسد المتهالك
لم اكن اقوى على الحراك او فعل اى شئ و فجأه شعرت بحاله من الهدوء و السكينه لم اشعر بها من قبل , نعم اشعر بذلك جيدا .. فكانت روحى تسحب من جسدى فى هدوء و انا ملقى على جانب الطريق و بقايا حطام السياره فى كل مكان و مازال عمود الاناره يبعث اشعته فوق جسدى الهامد
ارتفعت حتى اختفى كل شئ و بعد فتره وجدت نفسى داخل مكان اشبه بقاعه كبيره لا يوجد بها سوى مقعد وحيد و معلق على حوائط هذه القاعه شاشات متلاصقه لا تبث اى شئ و للحظه ادركت اننى داخل " مكان الانتظار " لم اهتم بأستيعاب ذلك المكان بقدر ما كنت افكر فى رد فعل ابى و امى على خبر موتى .. و اثناء انشغالى فى التفكير بدأت الشاشات تعمل
اقتربت منها و شاهدت اناس كثيره ترتدى ملابس سوداء و اصوات الصراخ تأتى من كل مكان , هذا ابى و هذه امى و هولاء اقاربى و اصدقائى .. ارى نفسى داخل الصندوق الخشبى و الجميع من حولى فى طريقهم الى ما يعرف " بالمنزل الاخير " .. اراهم جميعا و اشعر بما داخلهم
بما اننى داخل ذلك المكان فاربما امامى بعض الوقت حتى ارى كيف حالهم بعد رحيلى , هذه سيارتى كما هى منذ الحادث و اثار الدماء عليها امام المنزل .. و هذه امى دائما صامته تنظر كثيرا الى صورتى و الدموع لا تفارق عينها
هذا ابى يجاهد حتى يتقبل صدمه موت ابنه الوحيد بعد كل ذلك العمر .. فهما حقا يحبانى , اما اقاربى فكان الحزن داخلهم كبير ربما كنت اعنى لهم الكثير و هذه صورتى داخل منزل كل منهم
اشعر ان الجميع يفتقدنى و انا افتقد الجميع , حياتى سارت فى هدوء و ايضا رحلت بعيدا و فى هدوء .. اسعى الان حتى اتقبل هذا المكان الذى اقيم به , هل سأقابل احد ؟! .. ام سأظل وحيدا هنا ايضا ! هل سأقابل ارواح اخرى تتحدث معى و اتحدث معها ؟! .. فأنا لا اريد ان ابقى وحيد لا اريد ان ابقى وحيدا
قمت ملدوغا من النوم على صوت الهاتف , غارقا فى العرق و الحيره و قلبى يدق يعنف , هل مازلت أحلم أم هذا حقيقى , نظرت إلى ساعه الحائط , أنها لا تعمل و لكنها واقفه على الواحده و النصف , هل مازلت أحلم أم هذا حقيقى , أسرعت إلى الهاتف و نظرت إلى الشاشه و الخوف مسيطر علي , مازال الرن مستمر من رقم غريب , ترددت قبل أن أضغط على زر الرد ثم فعلتها قائلا ...
_ الو !
_ وحشتنى يا جبان .
_ (مى) , وقعتى قلبى , بتتكلمى ليه من
نمره غريبه ؟!
_ تلفونى فاصل , ثم تعالى هنا , يعنى
ايه وقعت قلبك يا استاذ , ها , انت معاك حد ؟!
_ حد ايه بس , انا قمت مفزوع من صوت
الموبيل .
_ طيب ايه بقى , هشوفك انهارده , ايه
رأيك نتغدى سوا مع بعض فى وسط البلد ؟!
_ امممممم , اوك , تمام , موافق ,
اشوفك على الساعه تلاته كده , (مى) بلاش تتأخرى كالعاده .
_ هتلاقينى فى المعاد يا فندم , يلا
باااى يا (جو) .
_ سلام .
(مى) أربعه و عشرون عاما من الجمال و الحيويه و النشاط و حب الحياه , نادرا
عندما تقابل مثلها , كل ما أعرفه أنها تحبنى كثيرا و أنا لا , لا أعرف , أحاول و
هى تحاول معى , ربما مع الوقت أبادلها نفس الشعور !
تركت الهاتف و توجهت إلى الحمام و مشاهد الحلم مازالت تعرض أمامى , لا أعلم
لماذا لا تكف عن مزاولتى كل فتره ؟! , لماذا لا تذهب ذكرياتها كما ذهبت هى ؟! ,
أسئله كثيره تدور داخل رأسى عند كل مره تأتينى أثناء نومى , أفكار و تساؤلات
تركتها تنهمر مع الماء السائل فوق رأسى , كم من الحزن بداخلى لا يوصف حتى أسئلتى
الوجوديه هربت منى , فقط وقفت أمام مراه الحمام لا أرى شئ , أزلت البخار من عليها
بيدى و نظرت إلى نفسى و إلى ثمانيه و عشرون عاما مضت !
أرتديت قميص و بنطال و صففت شعرى و حددت ذقنى الكثيفه نوعا ما , وجودها
يشعرنى بالامان لسبب لا أعرفه , أعدتت فنجان قهوه و لفتت خمسه سجائر فقط , فعند
أخر مره كُنت بها عند دكتور الصدر , قال لى إن صدرى أصبح كمدخنه كبابجى لا يراعى
الله فى اللحم الذى يقدمه إلى الذبائن و أنا على كل حال لا أريد أن يتمكن سرطان
الرئه منى !
بالنظر إلى سنى فأنا كما يقولون فى عز الشباب و لكن بالنظر إلى حالتى
الصحيه و التقارير الطبيه فأنا منتهى الصلاحيه منذ زمن و لكنى أعيش ببركه دعاء
الوالدين "رحمهم الله" , أستقليت سيارتى و شاهدت مسرحيه الازدحام
المرورى بل أصبحت أحد المشاركين فيها و كالعاده وصلت إلى العمل متأخر ساعه و نصف ,
لم أقم بعمل شئ مميز خلال وجودى بالاذاعه , فقط حديث خفيف مع بعض الزملاء و مراجعه
بعض الاشياء التى تخص البرنامج !
طوال جلوسى بالعمل , أحرقت أربع سجائر محشوه و ثلاثه أكواب شاى و كدت أن أحرق (ايمان) رئيسه التحرير , رقم قياسى بالنسبه الاوقات السابقه , بقى سيجاره واحده سوف أدخنها مع (مى) بعد الغداء , فقد وعدتها أن أخفف التدخين تدريجيا !
وسط البلد , الساعه الثالثه بعد ظهر اليوم , حيث الأزدحام الشديد و درجه الحراره العاليه , تلك المنطقه من القاهره دائما ساحره و لكن ليس اليوم , وسط القاهره أو كما يعرفها سكانها "وسط البلد" هى القلب التجارى للمدينه المزدحمه و تشمل أحياء : الدرب الاحمر , الموسكى , الخليفه , المقطم , باب الشعريه و السيده زينب , وسط البلد من اقدم احياء القاهره و احسنها و ارقاها تخطيطا و بها عماره شهيره بناها الخديوى "اسماعيل" أبان أفتتاح قناه السويس لتكون واجهه مشرفه لمصر و تم تخطيطها وتصميمها على أحدث الطرز الأوروبيه المعماريه و تم أدخال الاضاءه في شوارعها قبل ان تدخل شوارع باريس !
المدينه العريقه تغرق فى الازدحام و التلوث و أبواق السيارات , جاهدت كثيرا
حتى أستطعت أن أركن السياره فى أحد الشوارع الجانبيه المتفرعه من شارع
"عدلى" , خلال دقائق كنت جالسا فى أحد المطاعم الشهيره هناك منتظرا (مى)
, المطعم الذى أجلس على أحد طاولاته تأسس سنه 1934 و تم تجديده , يتكون من طابقين
يغلب عليهم الطابع المحلى العريق مع تصميم عالمى دقيق , يوجد على جانبى المطعم
نوافذ عاليه عليها صور "وسط البلد" و القاهره منذ القرن التاسع عشر , الإضاءه
عباره عن ثلاث لمبات معلقه في سقف مرتفع جدا و قطع الأثاث مطليه بالألوان البني و الأخضر
بدرجاته و تعطى إحساس بالراحه و الرجوع للطبيعه !
الديكور و تصميم المكان يعطى المساحه الداخليه حقها , كل طاوله ليها
خصوصيتها و مساحه خاليه حواليها , سرعان ما تصبح فريسه للكراسي الجلد الكبيره
المريحه في وسط المطعم ، كل طاوله بها أربع كراسى و لكن كل ما أحتاج كرسيان لى أنا
و (مى) التى لم تأتى حتى الان !
بعد لف سيجاره و تأمل للمكان و مراقبه تصرفات بعض الاشخاص , بدون أى مقدمات
طبعت على وجهى قبله و جلست ...
_ اتأخرت عليك ؟!
_ لا ابدا , ده انا حتى لسه موصلتش !
_ اااه بتتريق , يبقى زعلان عشان
اتأخرت عليك , السكه زحمه يا (يوسف) , انت عارف "وسط البلد" و زحمتها ,
زائد ان شارع "عدلى" صعب تلاقى فى ركنه , انا بالعافيه ركنت عربيتى فى
شارع جانبى قريب , متزعلش بقى .
_ انتى عارفه مش بحب التأخير و دايما
بكون موجود قبل المعاد .
_ اه , بأماره (ايمان) اللى بتصوت منك
بسبب تأخيرك كل يوم ساعه ونص على الشغل ... قالتها و هى مبتسمه .
_ بلاش سيرتها دلوقتى الله يكرمك , ها
, مبسوطه فى شغلك الجديد ؟!
_ اها , الناس كويسه هناك , الشغل
عندنا فى البنك هادى و مريح .
_ يارب دايما يا ستى , مش هناكل ولا
ايه ؟!
_ تحب تضرب ايه ؟! ولا اختار ليك انا
؟!
_ انتى بتسألى ! , يا استاذه (مى)
انتى كل مره بتختارى ليه نوع الاكل , هو انا بعرف اعارضك فى حاجه , دماغك ناشفه ,
دماغ صعايده .
_ طيب يا عم (يوسف) , شوف دماغ
الصعايده هتأكلك ايه دلوقتى .
وضعت قائمه الطعام و طلبت بعد أن حضر المتر بكل ثقه ...
_ عايزين فى الاول اتنين
"سمبوسك" و اتنين "فتوش" و ياريت لمون على
"السمبوسك" و بعد كده اتنين "ستيك لحمه مشويه" و رز .
بعد أن دون المتر كل هذه الطلبات , رفع رأسه من على الورقه و قال فى سعاده
بالغه ...
_ حضرتكوا تحبوا الحلو يكون ايه ؟!
نظرت الى الشيف (مى) ثم قلت لها ...
_ الطلعه دى عندى انا , عايزين الحلو
, اتنين "ام على" و بعدها "ايلى اسبرسو" .
_ تمام يا فندم , حاليا يكون الاكل
عند حضراتكم .
قالت (مى) و هى تبتسم ...
_ عرفت منين ان بحب "ام
على" ؟!
_ (على) قالى , جرى ايه يا بنت , هو
انا لسه عارفك اول امبارح , بطلى بقى اسئلتك العبقريه دى .
تبادلنا احاديث كثيره خلال تناولنا الطعام , من الفن الى السياسه الى
الاقتصاد الى النميمه على بعض الاشخاص و فى الحقيقه الطعام كان اكثر من رائعا و
شجعنى كثيرا على مشاركه (مى) نمها , انتهينا من الاكل و انتظرنا الحلو يأتى و خلال
الانتظار , قمت بأخراج ورقه بفره و كيس التبغ و قمت بكل تركيز فى عمليه لف
السيجاره و خلال اللف قالت (مى) ...
_ انت لسه معرفتش مين اللى بعت ليك
الظرف الابيض فى المستشفى بعد حادثه العربيه ؟!
تنهدت و تركت ورقه البفره و التبغ و قلت لها ...
_ لسه يا (مى) , لسه معرفش مين اللى
بعت الظرف , خمس سنين عمال ادور و مفيش اى نتيجه , خلاص هتتجنن , انا من يأسى بطلت
افكر فى الموضوع ده .
_ انا عارفه ان الموضوع ده تعبك يا
(يوسف) , بس صدقنى انا كمان تعبانه معاك و مش متخيله ازاى حد عايش مش فاكر غير اخر
خمس سنين فى حياته , انا عشت معاك تلات سنين منهم و حاسه بيك .
_ (مى) من فضلك , بلاش كلام فى
الموضوع ده , اختمى اليوم كويس احسن .
لم تتكلم و أكتفت بأداره وجهها إلى النافذه تراقب الشارع و السيارات و الناس
و بدأت عيناها تلمع و يظهر بهم الدموع مع طرق خفيف بأصابعها على الطاوله , حينها
عرفت إن لا يوجد مجال للحديث معها حتى تهدأ , طلبت الحساب و تركنا المطعم , توجه
كل منا إلى سيارته بدون أى كلام و طلبت منها أن تتصل بى عند وصولها لكى أطمئن
عليها , هزت رأسها و قبلتنى ثم رحلت , تركتها تذهب و أنا أعلم أنها فى قمه حزنها !
توجهت إلى سيارتى وأنا أشعر بضيق شديد بسبب هذا الموقف و حديثنا عن الحادثه
و بسبب من دوما أحلم بها و (مى) لا تعرف أى شئ عن ذلك الموضوع , لم أخبرها به و إن
أخبرتها ستغضب لأننى لم أصارحها به منذ حدوثه كما تعودنا , أشعلت السيجاره التى
قمت بلفها و أحرقتها خلال الطريق إلى المنزل , اللعنه على دكتور الصدر و على
السرطان و على الازدحام المرورى و على الرئيس و حزبه !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق