السبت، 24 أكتوبر 2015

( 12 ) الهروب الكبير ! - شتاء 2005 - جزء 1




شتاء 2005 ...
ليله رأس السنه ... العنايه المركزه ...
_ حمدلله على السلامه .
    قالتها و هى تغرز حقنه داخل محلول معلق وجد طريقه داخل عروقى , غرقه حوائطها بيضاء و تلفاز صغير معلق , على اليمين نافذه و ستاره بلاستيكيه و لوحه معلقه بها منظر طبيعى و على اليسار الحمام و باب الغرفه و بالأمام كرسيان لزوار لن يأتوا , غارقا فى الجبس و الخياطات و صداع ترك العالم كله و مسك رأسى , سألتها ...
_ هو حصل ايه ؟! .
_ استريح دلوقتى .. قالتها بأبتسامه مريحه .
   و قبل ان ترحل , امسكت يدها البيضاء الناعمه , مكررا ...
_  معلش عايز اعرف ايه اللى حصل ؟!
    لم تجد طريقا للفرار من اسئلتى حتى قالت ...
_ انا عندى مرور دلوقتى هخلص و اجى احكى ليك .
   هززت رأسى موافقا و أنا لا أشعر بشئ سوى صداع قاتل , خاصيه أرجاع الشريط توقفت عندى , لا أتذكر أى شئ , لا زائرون ولا ورود ولا كروت تتمنى الشفاء العاجل , أشعر بأنى ولد هكذا , بعد أنتظار ساعات طويله وجدتها قادمه و تحمل فى يديها علبه عصير , سحبت كرسى و جلست بالقرب منى , وضعت الماسوره البلاسيكيه داخل علبه العصير و اعطتنى !
   بالكاد تذوقت طعمه و سألتها ...
   
_ هو ايه اللى حصل ؟!
   أعتدلت فى جلستها و قالت ...
_ حادثه عربيه , طلعوا العربيه من تحت تريله كانت واقفه على جنب الطريق و بعد كده طلعوك , الناس بتقول ان العربيه دخلت فى الترله بكل سرعتها , معجزه انك لسه عايش , قاطعتها و انا احاول اعاده المشهد ...
_ طيب انا حصلى ايه ؟!
   
   تنهدت ثم قالت ...
_ كسر فى الظهر اخر فقرتين , شرخ فى الحوض , خلع فى الركبه اليمين و الكوع الشمال و ارتجاج فى المخ , شرت بنظرى ناحيه النافذه قائلا لنفسى : هذه مجموعه حوادث و ليست حادثه واحده , انتهيت !
   أكملت ...
_ حالتك مستقره بس هتشرفنا هنا كتير , عاجلتها ...
_ محدش سأل عليه ؟!
_ انت بقالك هنا اكتر من شهرين فى غيبوبه , محدش سأل عليك خالص .
   أغمضت عينى و أنا ألعن نفسى عن سبب سؤالى لها عن حالتى و ماذا حدث , قامت من على الكرسى قائله ...
_ استريح دلوقتى .
   و قبل أن تفتح باب الغرفه و تخرج قالت ...
_ اه افتكرت , احنا ملقناش معاك لا بطاقه ولا موبيل ولا اى حاجه تثبت شخصيتك , انت مش فاكر اسمك ايه ؟!
   هززت رأسى نافيا , أى لا أعرف , ترددت قليلا قبل أن تكمل ...
_ انا اسفه , والدك و ولدتك ماتوا فى الحادثه .
   ثم خرجت مسرعه !

   من أنا ؟!
   من أبى و أمى ؟!
   ماذا حدث ؟!
   و أخيرا , لماذا لم يأتى أحد لزيارتى طوال هذه المده ؟!
   أسئله كثيره تدور داخل رأسى بدون توقف و الصداع يكاد يقتلنى , لا أستطيع تحمل المزيد من هذه الأسئله , مهما فعلت لن أحصل على أى أجابه و أنا أعانى فقدان فى الذاكره أو ربما أصبحت أعانى من فقدان حياه بأكملها , أحتاج إلى النوم و لو لساعات قليله !
   درجه الحراره ترتفع ببطئ ، أشعر بصهد يخرج من جسدي و العرق ينصب من علي جبيني و قطراته تسيل علي السرير ، غارق في النوم أو شبه نائم ، أحلم أم أعاني كابوس ، لا أعلم ، حواسي مستيقظه بعنف شديد تلتقت كل المثيرات ، سهم الهواء الخفيف علي وجهي و صوت صرير النافذه يمينا و يسارا تتراقص مع الريح و صوت موتور الماء يرفع للدور السابع , نائم مغروس بقلب السرير يكاد ظهري يلامس الأرض !
   قابعه فوق صدري واضعه يديها علي وجهي تزيح قطرات العرق ، صوت دقات قلبي بدأ يرتفع ، لا أراها ، عيني ثقيله حتي الموت ، رائحه عطرها حيه تلتف حول عنقي ، بؤبؤ العين يدور كمن وقع فريسه لأحد الاسود , أشعر بنهديها و أرجلها فوقي ، لا أستطيع أن أتنفس ، أريد أن أستيقظ ، يدي اليمني تتحرك ككفيف يشق طريقه داخل غرفه مظلمه ، لن تأخذ روحي ، لن أذهب معها ، لن أستسلم ، صوت المنبه يصرح في أرجاء الحجره !
   نظرت له و ضاقت عيناها و أشتعلت غضبا ، تتوعد أن تأتي مره أخري ، قمت ملدوغا كمن قرصه عقرب اتحسس رقبتي و صدري و أراقب هروبها من بين ثنايات النافذه , دخلت الممرضه و بيدها حقنه ثم تيبثت عندما رأتنى و بصعوبه قالت ...
_ انت مالك وشك اصفر كده ليه و غرقان فى العرق و ايه الاحمرار اللى حولين رقبتك ده ؟!
_ أ أ أ , انا بس تعبان و الحر و العرق هما اللى عملين كده فى رقبتى .
_ حر ايه و عرق ايه , ده احنا فى اول يناير , يعنى فى عز الشتا !
   لم أستطيع الرد عليها فليس لدى وصف أو تفسير لما حدث منذ قليل لكى أقوله لها أو لنفسى ...
_ عموما ده معاد الحقنه بتاعتك , هتريحك و تخليك تنام كويس .
   أخذ سائل الحقنه يشق طريقه داخل اوردتى حتى ذهبت فى النوم لا أشعر بشئ !

غرفه رقم 53 ...
   تم نقلى من العنايه المركزه بعد أن قضيت بها شهرين غائب عن الوعى إلى غرفه عاديه و مازلت غارقا فى الكسور و الخياطات و الجبس الأبيض الذى أصبح جزء منى , ظللت أحاول جاهدا أن أتذكر أى شئ عن الحادثه أو عن أهلى و أقاربى و الأصدقاء , و لكن كل المحاولات بائت بالفشل , أصبحت أشك إن الأمر ليس له علاقه بفقدان الذاكره فقط أنما أمتد إلى مناطق أخرى مرعبه , لان طوال وجودى بالمستشفى حتى هذه اللحظه لم يقم أحد بالسؤال عنى , لا أحد على الأطلاق !
   مر أكثر من خمسه أشهر و أنا جالسا على السرير , الشرائح و المسامير بكوعى الايسر و ركبتى اليمنى و الصفائح فوق و تحت الفقرتين المكسورتين بظهرى , بعد كل هذا الوقت تم فك الجبس من جميع أنحاء جسدى و إزاله بعض الشرائح و المسامير و بدأ العلاج الطبيعى مع الدكتوره (سلوى) !
   اليوم هو أول جلسه علاج طبيعى مع الدكتوره (سلوى) و أنا فى أنتظارها منذ الصباح , لقد مللت عدم الحراك لعده شهور و أريد أن أقوم من على الفراش بأى طريقه ممكنه , بداخلى طاقه قويه تجاه هذا العلاج , سأقوم بأى شئ لكى استطيع أن أسير مره أخرى !
   دخلت الممرضه الغرفه و تجر أمامها كرسى متحرك , عندما نظرت إليه شعرت بمدى عجزى , تلك أول مره اجلس عليه , أغمضت عينى فى محاوله لتقبل الامر , أعلم إن يوجد جهد كبير سوف أقوم به لكى استطيع أن أسير , على الاقل بعكازين , اااه , لا يوجد مفر , أقتربت الممرضه بالكرسى و ألصقته بالسرير و أتى من خلفها أثنان ممرضين رجال , قام الاول بحملى من الخلف و الثانى ساعده من الامام حتى تم وضعى على الكرسى و بدأت الممرضه تسير بى عبر ممرات و أروقه المستشفى , عند كل غرفه كنت أمر بجانبها كنت أنظر داخلها , هل يوجد أحدا حالته أسوء من حالتى ؟! .. الاجابه لا , لا أحد يعانى من فقدان الذاكره هنا !
   وصلت إلى الصاله الرياضه , غرفه مساحتها كبيره , كل حوائطها مكسوه بالمرايات كصالات الحديد و أنديه الجيم و اللياقه البدنيه , يوجد الكثير من الأجهزه الرياضه التى تساعد على تضخيم و نمو العضلات و لكن فى حالتى هذه الاجهزه سوف تعيد تأهيلى كى أصبح أنسان يستطيع أن يمارس حياته مره أخرى , حياته التى توقفت منذ أن فقد ذاكرته !
   يوجد العديد من الرجال و الشباب الذين يمارسون العلاج الطبيعى و كل واحد منهم يصاحبه ممرض أو دكتور يشرف على علاجه ...
_ عامل ايه دلوقتى ؟!
   قطع أكتشافى للمكان صوت سيده أتمت نصف القرن الاول من عمرها و تبدأ فى النصف الثانى , أدرت الكرسى الذى أجلس عليه و نظرت إليها , الانطباع الاول دائما يدوم , سيده فى العقد السادس من عمرها , التجاعيد تغزوا وجهها بأستيحاء , قوام ممشوق رغم الستون عاما التى مضتت من عمرها أو هكذا خُيل لى , شعرها مائل إلى اللون البنى و متدلى على كتفيها و بلطوا أبيض كُتب عليه , دكتور(سلوى عبدالحميد) , أستشارى العلاج الطبيعى .. فى يوم من الايام كانت هذه السيده جميله !
_ أنا دكتوره (سلوى عبدالحميد) و هتابع معاك العلاج الطبيعى .
_ أهلا يا دكتور .
_ انت جى فى حادثه عربيه , خلى بالك احنا عندنا شغل كتير و هنأخد وقت اكتر , الحمدلله انت فكيت الشرايح و المسامير و الصفحتين اللى فى ظهرك و الاشعه بتقول ان الحوض بدأ يلحم , انت أخدت حوالى خمس شهور فى الجبس و فى العلاج الطبيعى هنأخد حوالى من تلات لأربع شهور .. ايه ساكت ليه ؟!
_ أنا مش هقدر أستحمل كل الوقت ده , أنا تعبت من القعده فى المستشفى , جبس و خياطات و مسامير و شرايح و وجع ملوش أول من أخر , انا , انا بقالى هنا أكتر من سبع شهور محدش سأل عليه ولا انا عارف أفتكر حد من أهلى او صحابى أو أى حاجه , انا ابويا و امى ماتوا و مش قادر احزن عليهم عشان مش فاكر هما مين اصلا و شكلهم ايه !
_ انا حاسه باللى انت بتمر بي و ربنا يكون فى عونك و مدركه ان فقدان الذاكره ده حاجه صعبه على المريض و على اللى بيعالجه كمان , انا كل اللى اقدر اقدمه ليك ان اخليك ترجع تمشى على رجلك مره تانيه , انت عضمك لحم بسرعه و دى حاجه نادره الحدوث و اكيد هيبقى عندك اراده قويه عشان تبدأ العلاج الطبيعى , خدها نصيحه منى متفكرش فى اى حاجه دلوقتى غير فى العلاج الطبيعى و انك ترجع تمشى على رجلك تانى .
_ حاضر .
_ احنا مش هنعمل حاجه انهارده , انا كنت حابه اتعرف عليك و نتكلم مع بعض شويه , من بكره الصبح هنبدأ العلاج , استريح و نام كويس و متفكرش فى حاجه غير العلاج عشان بكره يوم طويل يا بطل .
   أبتسمت ردا على كلامها و أنا من داخلى أشعر بالضياع و الانهيار و فقدان الامل فى كل شئ , أتت الممرضه و أعادتنى إلى غرفتى مره أخرى لكى أبدأ رحله جديده .. رحله العلاج الطبيعى !